ماذا يفعل الأبناء أثناء شجار الوالدين؟

يُعد الشجار بين الوالدين من الظواهر التي تترك آثاراً نفسية عميقة على الأبناء، وقد يتخذ هذا الشجار أشكالاً متعددة تتفاوت بين الحوار المرتفع الصوت إلى الصراخ، الشتائم، أو حتى العنف الجسدي. في غمار هذا التوتر، لا يقف الأبناء موقف المتفرج السلبي فحسب، بل يتفاعلون مع الحدث بطرق مختلفة، تتشكل بناءً على أعمارهم، سماتهم الشخصية، مستوى الشدة والتكرار في النزاعات، ومدى شعورهم بالأمان داخل البيئة الأسرية.

تتأثر استجابات الأبناء خلال شجارات الوالدين بعوامل كثيرة، وهي ليست مجرد ردود فعل آنية، بل تنعكس على مسار حياتهم النفسي والعاطفي والاجتماعي. فهم لا يملكون القدرة على تحليل الموقف بعمق أو إدراك دقائقه كما يفعل الكبار، لذلك كثيرًا ما يفسرون الخلافات بنحو شخصي، ويحمّلون أنفسهم اللوم أو يشعرون بأن العالم من حولهم ينهار. المقال التالي يتناول هذا الموضوع بعمق، مستعرضًا مظاهر تفاعل الأبناء مع شجارات الوالدين وتأثيراتها المختلفة.

أولاً: التأثيرات النفسية الفورية على الأبناء

عندما يدخل الوالدان في شجار، فإن الأبناء يستقبلون الموقف على الفور بإحدى ثلاث استجابات نفسية رئيسية: القلق، الخوف، والانزعاج. وقد يظن البعض أن الطفل الصغير لا يعي ما يدور، لكن الأبحاث النفسية تؤكد أن حتى الأطفال الرضع يستجيبون لتغيرات نبرة الصوت وتعبيرات الوجه.

مظاهر القلق والخوف:

• خفقان القلب وزيادة معدل التنفس: يُلاحظ على الطفل علامات الفزع الجسدي، مثل التعرق أو التصاقه بالأم أو الأب بحثًا عن الأمان.

• الانسحاب والانعزال: بعض الأطفال ينسحبون إلى غرفهم، أو يختبئون خلف الأثاث، أو يضعون أيديهم على آذانهم لمحاولة حجب الصوت.

• البكاء الهستيري: لا سيما لدى الأطفال في سن ما قبل المدرسة، حيث يعبر الطفل عن ضيقه وعدم قدرته على فهم ما يحدث بالبكاء.

التفسير الشخصي للموقف:

غالبًا ما يميل الطفل إلى إسقاط مسؤولية الشجار على نفسه، خاصةً إذا تزامن الخلاف مع فعل قام به، مثل كسر غرض ما أو رفض الأكل. ويتولد لدى الطفل شعور بالذنب، ما يُعزز لديه صورة داخلية بأنه مصدر للمتاعب أو سبب في فشل والديه.

ثانيًا: استراتيجيات الأبناء للتكيف مع الشجار

رغم أن الأطفال لا يملكون أدوات ناضجة للتعامل مع الخلافات الزوجية، إلا أنهم يطورون استراتيجيات بدائية للتكيف، تختلف حسب السن والنضج العقلي.

في مرحلة الطفولة المبكرة (1–6 سنوات):

• اللجوء إلى الألعاب: يُستخدم اللعب كآلية هروب من الواقع، وقد يُظهر الطفل عبر لعبه إشارات ضمنية لما يشعر به.

• التشبث بأحد الوالدين: يظهر هذا السلوك خاصة تجاه الطرف الذي يبدو أضعف في الشجار، حيث يشعر الطفل بالحاجة لحمايته.

• نوبات الغضب أو العدوانية: قد يبدأ الطفل في ضرب الأشياء أو البكاء الشديد، تعبيراً عن القلق والتوتر الداخلي.

في مرحلة الطفولة الوسطى (7–12 سنوات):

• محاولة التوسط بين الوالدين: يظهر الطفل سلوك “صانع السلام”، وقد يحاول تهدئة أحد الوالدين أو تشتيت انتباههما.

• الانكفاء الدراسي أو الاجتماعي: تبدأ درجات الطفل في التراجع، أو ينعزل عن أصدقائه، نتيجة للضغط النفسي المتولد من النزاعات.

• مشاعر الخجل أمام الآخرين: خاصة إذا سُمع الشجار من قبل الجيران أو الأقران، حيث يتولد شعور بالإحراج وعدم الأمان.

في مرحلة المراهقة:

• التقمص أو التمرد: إما أن يتقمص المراهق أحد طرفي الشجار ويدافع عنه بشدة، أو يتمرد على النظام الأسري بالكامل.

• الهروب من المنزل: في حالات الشجار المستمر والعنيف، قد يُقدم بعض المراهقين على ترك المنزل مؤقتًا أو بشكل دائم.

• اللجوء إلى العزلة أو الانخراط في سلوكيات خطرة: مثل التدخين، الإدمان، أو الانحراف السلوكي.

ثالثًا: التأثيرات بعيدة المدى على الشخصية والتكوين العاطفي

ما يحدث في الطفولة لا يبقى محصوراً فيها، بل يُشكّل البناء النفسي للفرد طوال حياته. وشجارات الوالدين، إذا كانت متكررة أو عنيفة، قد تترك ندوباً عميقة.

في العلاقات الاجتماعية المستقبلية:

• الخوف من الارتباط العاطفي: الأبناء الذين شهدوا نزاعات متكررة بين الأبوين يميلون إلى تجنب الزواج أو يشعرون بعدم الأمان في العلاقات.

• إعادة إنتاج النموذج الأبوي: بعض الأبناء، خاصة الذكور، يُكررون أنماط العنف أو الصراخ في علاقاتهم المستقبلية، لأنهم تعلموا أن “هذا هو النموذج الطبيعي للخلاف”.

في الصحة النفسية:

• القلق العام واضطرابات المزاج: تظهر لدى البعض أعراض القلق المستمر، التوتر، الكآبة، أو اضطرابات النوم.

• ضعف احترام الذات: يعيش الطفل في بيئة لا تمنحه الشعور بالأمان، ما ينعكس سلبًا على صورته عن نفسه.

رابعًا: التفاوت في التأثر حسب نمط الشجار

ليست كل الخلافات الزوجية ذات التأثير ذاته على الأبناء. بل يختلف التأثير بحسب طبيعة الخلاف وطريقة حله.

خامسًا: دور الصمت في تفاقم الأثر

في بعض الأسر، لا يتشاجر الوالدان أمام الأبناء، ولكن يعم جو من الصمت البارد والقطيعة. هذا النوع من النزاعات الصامتة قد يكون أكثر ضرراً لأنه يُولّد توترًا خفيًا لا يمكن تفسيره، ويزرع لدى الطفل شعورًا غامضًا بالخطر دون وجود كلمات تُفسر الموقف.

سادسًا: الفروق الفردية في استجابة الأبناء

لا يتأثر جميع الأبناء بالطريقة نفسها. فهناك أطفال يتمتعون بقدرة على الصمود النفسي (resilience)، ويميلون إلى تجاوز الأزمات بسرعة، بينما ينهار آخرون نفسيًا حتى مع أدنى توتر. تلعب عوامل مثل الذكاء العاطفي، وجود دعم اجتماعي خارج الأسرة (مثل المعلمين أو الأقارب)، والاستقرار في مجالات أخرى من الحياة دورًا مهمًا في تحديد شدة التأثر.

سابعًا: الأثر على التحصيل الدراسي

يرتبط التوتر العائلي ارتباطًا مباشرًا بمستوى الأداء الأكاديمي. يُظهر الكثير من الأطفال الذين يعيشون في بيئات مليئة بالنزاعات ضعفًا في التركيز، تأخرًا في الواجبات، أو انخفاضًا في معدلات التحصيل. بعضهم يُصاب بما يُعرف بـ”الشرود الذهني” داخل الصفوف، فيبدو كأنهم حاضرون بأجسادهم فقط، بينما عقولهم تدور في دوامة من الأسئلة والمخاوف المتعلقة بالأسرة.

ثامنًا: كيف ينقل الأبناء الصراع الداخلي للآخرين

من أبرز المظاهر السلوكية الناتجة عن شجارات الوالدين هي أن الأبناء يُعيدون إنتاج هذا الصراع في سلوكياتهم مع الآخرين:

• في المدرسة: قد يظهر الطفل سلوكًا عدوانيًا أو يتنمر على أقرانه.

• في اللعب: يعكس الطفل النزاعات عبر مشاهد تمثيلية تتضمن الصراخ أو التهديد.

• في الكلام: يستخدم تعبيرات جارحة أو كلمات سمعها أثناء الخلافات.

تاسعًا: أثر الشجار على ثقة الطفل بالوالدين

الثقة هي الأساس الذي يبني عليه الطفل علاقته مع والديه. عندما يرى الطفل أحد الوالدين يتعرض للإهانة أو العنف من الآخر، يبدأ في فقدان هذه الثقة. يرى والده شخصاً عنيفاً، أو أمه شخصية ضعيفة، ما يخل بالتوازن النفسي الذي يحتاجه في هذه المرحلة الحرجة.

عاشرًا: أثر الشجار على مفهوم الطفل للعدالة

يتشكل لدى الطفل من خلال ملاحظاته اليومية مفهومه عن العدالة والصواب والخطأ. عندما يشهد الطفل أحد الوالدين يتعرض للظلم أو الإهانة دون تدخل من الطرف الآخر أو دون وجود عواقب، فإن هذا يُعزز شعورًا بأن الظلم أمر طبيعي، أو أن العنف وسيلة مقبولة لحل النزاعات.

الخلاصة

شجارات الوالدين لا تمر دون أثر، حتى وإن بدت عابرة أو “طبيعية” من وجهة نظر الكبار. إن سلوك الأبناء، مشاعرهم، ومواقفهم أثناء هذه الخلافات هي مؤشرات على مدى تأثرهم الداخلي، وهي أيضًا مقدمة لتكون شخصياتهم في المستقبل. البيئة الأسرية المستقرة لا تعني خلوها من الاختلافات، بل قدرتها على إدارة هذه الاختلافات بطرق صحية تضمن للطفل الشعور بالأمان والاحتواء.

المراجع:

1. Cummings, E. M., & Davies, P. T. (2010). Marital Conflict and Children: An Emotional Security Perspective. Guilford Press.

2. American Psychological Association. (2022). Children and Conflict in the Home. www.apa.org